كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



و {ضِئْزَى} في قراءة ابن كثير مصدرٌ وُصِفَ به، ولا يكون وصفًا أصليًا لِما تقدَّم عن سيبويه. فإنْ قيل: لِم لا قيل في {ضِئْزى} بالكسر والهمز: إنَّ أصلَه ضُئْزَى بالضم فكُسِرَتِ الفاءُ كما قيل فيها مع الياء؟ فالجواب: أنه لا مُوْجِبَ هنا للتغيير؛ إذ الضمُّ مع الهمز لا يُسْتثقل استثقاله مع الياء الساكنة، وسُمع منهم {ضُوْزَى} بضم الضاد مع الواو أو الهمزة.
وأمَّا قراءة زيدٍ فَتَحْتمل أَنْ تكونَ مصدرًا وُصِف به كدَعْوى، وأَنْ تكونَ صفةً كسَكْرى وعَطْشَى.
{إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)}.
قوله: {إِنْ هِيَ}: في {هي} وجهان، أحدهما: أنها ضميرٌ للأصنام أي: وما هي إلاَّ أسماءٌ ليس تحتها في الحقيقة مُسَمَّياتٌ في الحقيقة لأنكم تَدَّعُوْن الإِلهية لِما هو أبعدُ شيءٍ منها وأشدُّ منافاةً لها، كقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَآ} [يوسف: 40]. والثاني: أن تكونَ ضميرَ الأسماءِ، وهي اللاتُ والعُزَّى ومَناة، وهم يَقْصِدُون بها أسماءَ الآلهة، يعني: وما هذه الأسماءُ إلاَّ أسماءٌ سَمَّيْتموها بهواكم وشهواتِكم ليس لكم على صحةِ تَسْمِيَتِها بُرْهانٌ تتعلَّقون به، قاله الزمخشري. وقال أبو البقاء: {أسماء} يجب أن يكون المعنى: ذواتُ أسماءٍ: لقوله: {سَمَّيْتُموها} لأنَّ الاسمَ لا يُسَمَّى.
قوله: {إِن يَتَّبِعُونَ} العامَّةُ على الغَيْبة التفاتًا من خطابهم إلى الغيبة عنهم تحقيرًا لهم. وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وعيسى بن عمر وابن وثاب بالخطاب، وهو حسنٌ موافِقٌ.
قوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} نَسَقٌ على الظنِّ، و{ما} مصدريةٌ، أو بمعنى الذي.
قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} يجوزُ أَنْ يكونَ حالًا من فاعلِ {يَتَّبعون} أي: يَتَّبعون الظنَّ وهَوَى النفس في حالِ تنافي ذلك وهي مجيْءُ الهدى مِنْ عند ربِّهم. ويجوزُ أَنْ يكونَ اعتراضًا فإنَّ قوله: {أم للإِنسان} متصلٌ بقوله: {وَمَا تَهْوَى الأنفس} وهي أم المنقطعةُ فتتقدَّر ب بل والهمزةِ على الصحيح. قال الزمخشري: ومعنى الهمزةِ فيها الإِنكارُ أي: ليس للإنسانِ ما تَمَنَّى.
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)}.
قوله: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ}: كم هنا خبريةٌ تفيد التكثيرَ، ومحلُّها الرفعُ على الابتداءِ {ولا تُغْني شفاعتُهم} هو الخبرُ. والعامَّةُ على إفراد الشفاعة وجُمِعَ الضميرِ اعتبارًا بمعنى مَلَكَ وبمعنى {كم}. وزيد بن علي (شفاعتُه) بإفرادها اعتبر لفظ {كم}، و{مَلَكَ}. وابن مقسم {شفاعاتُهم} بجمعها. و{شيئًا} مصدرٌ أي: شيئًا من الإِغناء.
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28)}.
قوله: {وَمَا لَهُم بِهِ}: أي: بما يقولون أو بذلك. وقال مكي: الهاءُ تعود على الاسمِ لأنَّ التسميةَ والاسمَ بمعنى. وقرأ أُبي {بها} أي: بالملائكة أو بالتسمية، وهذا يُقَوِّي قول مكي.
{ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)}.
قوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ}: قال الزمخشري: هو اعتراض أي: فأَعْرِضْ عنه ولا تُقابِلْه، إنَّ ربك هو أعلمُ بالضالِّ.
قال الشيخ: كأنه يقول: هو اعتراضٌ بين {فأعرِضْ} وبين {إنَّ ربك}، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراضِ.
قلت: كيف يقول: كأنه يقول هو اعتراضٌ وما بمعنى التشبيه، وهو قد نَصَّ عليه وصرَّح به فقال: أي فأعرِضْ عنه ولا تقابِلْه، إنَّ ربك؟ وقوله: (ولا يَظْهر)، ما أدري عدمَ الظهورِ مع ظهور أنَّ هذا علةٌ لذاك، أي: قوله: {إنَّ ربَّك} علةٌ لقوله: {فأعْرِضْ} والاعتراضُ بين العلةِ والمعلولِ ظاهرٌ، وإذا كانوا يقولون: هذا معترضٌ فيما يجيءُ في أثناء قصةٍ فكيف بما بين علةٍ ومعلول؟
وقوله: {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} جوَّزَ مكي أن يكونَ على بابِه من التفضيل أي: هو أعلمُ مِنْ كل أحد، بهذين الوصفَيْن وبغيرِهما، وأَنْ يكونَ بمعنى عالِم وتقدَّم نظيرُ ذلك مرارًا.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31)}.
قوله: {لِيَجْزِيَ}: في هذه اللامِ أوجهٌ: أحدها: أَنْ تتعلَّقَ بقوله: {لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} ذكره مكي. وهو بعيدٌ من حيث اللفظُ ومن حيث المعنى. الثاني: أَنْ تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السماوات} أي: له مِلْكُهما يُضِلُّ مَنْ يشاء ويَهْدي مَنْ يشاء ليجزيَ المحسنَ والمسيءَ. الثالث: أَنْ تتعلَّق بقوله: {بمنْ ضَلَّ} و{بمَنْ اهتدى}. واللام للصيرورةِ أي: عاقبة أمرهم جميعًا للجزاءِ بما عملوا، قال معناه الزمخشري. الرابع: أن تتعلَّقَ بما دَلَّ عليه قوله: {أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ} أي: حَفِظ ذلك ليجزيَ، قاله أبو البقاء. وقرأ زيد بن علي {لنجزيَ}، (ونجزيَ) بنونِ العظمة، والباقون بياء الغَيْبَةِ.
{الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}.
قوله: {الذين يَجْتَنِبُونَ}: يجوزُ أَنْ يكونَ منصوبًا بدلًا أو بيانًا أو نعتًا للذين أحسنوا، وبإضمار أَعْني، وأن يكونَ خبر مبتدأ مضمرٍ أي: هم الذين، وقد تقدَّم الخلاف في {كبائر} و{كبير الإِثم}.
قوله: {إِلاَّ اللمم} فيه أوجه، أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ لأنَّ اللَّمَمَ الصغائرُ، فلم تندرِجْ فيما قبلَها، قاله جماعةٌ وهو المشهور. الثاني: أنه صفةٌ و{إلاَّ} بمنزلة (غير) كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله} [الأنبياء: 22] أي: كبائرَ الإِثم والفواحش غيرِ اللمم. الثالث: أنه متصلٌ وهذا عند مَنْ يُفَسِّر اللممَ بغير الصغائرِ، والخلاف مذكور في التفسير. وأصلُ اللَّمَم: ما قَلَّ وصَغُر، ومنه اللَّمَمُ وهو المَسُّ من الجنون، وألمَّ بالمكان قلَّ لُبْثُه به، ألَمَّ بالطعام أي: قَلَّ أكلُه منه. وقال أبو العباس: ًاصلُ اللَّمم: أَنْ يُلِمَّ بالشيء من غير أن يركَبَه يقال: ألمَّ بكذا إذا قاربه، ولم يُخالِطْه. وقال الأزهري: العربُ تستعمل الإِلمامَ في معنى الدُنوِّ والقُرْب. وقال جرير:
بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ** عليَّ ومَنْ زيارَتُه لِمامُ

وقال آخر:
متى تأتِنا تُلْمِمْ بنا في ديارِنا ** تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجا

وقال آخر:
لقاءُ أخِلاَّءِ الصَّفاءِ لِمامُ

ومنه لِمَّة الشَّعْرِ لِما دونَ الوَفْرةِ.
قوله: {أَجِنَّةٌ} جمع جَنين، وهو الحَمْلُ في البطنِ لاستتارِه. وجنين وأَجِنَّةَ كسرير وأَسِرة.
{وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34)}.
قوله: {وأكدى}: أصلُه مِنْ أكدى الحافرُ إذا حفر شيئًا فصادفَ كُدْيَةً مَنَعَتْه من الحفر، ومثلُه أَجْبَلَ أي: صادف جبلًا منعه من الحفر، وكُدِيَتْ أصابِعُه: كلَّتْ من الهزِّ، ثم اسْتُعْمل في كلِّ مَنْ طلب شيئًا، فلم يَصِلْ إليه أو لم يُتَمِّمْه. وأَرَأَيْتَ بمعنى أخبرني.
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35)}.
و {أَعِندَهُ عِلْمُ}: هو المفعولُ الثاني. والمفعولُ الأولُ محذوفٌ اقتصارًا لأعطى.
قوله: {فهو يَرَى} هذه الجملةُ مترتبةٌ على ما قبلَها ترتُّبًا ظاهرًا. وقال أبو البقاء: {فهو يرى} جملةٌ اسميةٌ واقعةٌ موقعَ الفعليةِ. والأصل: أَعنده عِلْمُ الغيبِ فيَرى. ولو جاء على ذلك لكان نصبًا على جوابِ الاستفهام. انتهى. وهذا لا حاجةَ إليه مع ظهورِ الترتُّبِ بالجملةِ الاسميةِ، وقد تقدَّم له نظيرُ هذا الكلامِ في موضعٍ آخرَ وتقدَّمَ الردُّ عليه.
{وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)}.
قوله: {وَإِبْرَاهِيمَ}: عطفٌ على {موسى}، وإنما خَصَّ هذين النبيَّيْن عليهما السلام بالذِّكْر؛ لأنه كان بين إبراهيم وموسى يُؤْخَذُ الرجلُ بجَريرةِ غيره، فأولُ مَنْ خالفهم إبراهيمُ عليه السلام. و{أم} منقطعةٌ أي: بل ألم يُنَبَّأ. والعامَّةُ على {وَفَّى} بالتشديد. وقرأ أبو أمامةَ الباهلي وسعيد بن جبير وابن السَّمَيْفع {وَفَى} مخففًا. وقد تقدَّم أنَّ فيه ثلاثَ لغاتٍ، وأَطْلَقَ التوفيةَ والوفاءَ ليتناولا كلَّ ما وَفَى.
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)}.
قوله: {أَلاَّ تَزِرُ}: (أن) مخففةٌ من الثقيلة، واسمُها محذوفٌ هو ضميرُ الشأنِ. ولا تزرُ هو الخبرُ وجيْءَ بالنفيِ لكونِ الخبرِ جملةً فعليةً متصرفةً غيرَ مقرونةٍ ب (قد)، كما تقدَّم تحريرُه في المائدة و(أن) وما في حَيِّزها فيها قولان، أظهرهُما: الجرُّ بدلًا مِنْ (ما) في قوله: {بِمَا فِي صُحُفِ}. والثاني: الرفعُ خبرًا لمبتدأ مضمر أي: ذلك أَنْ لا تَزِرُ أو هو أَنْ لا تَزِرُ، وهو جوابٌ لسؤالٍ مقدر كأنَّ قائلًا قال: وما في صُحُفهما؟ فأجيب بذلك. قلت: ويجوزُ أَنْ يكونَ نصبًا بإضمار أعني جوابًا لذلك السَّائل. وكلُّ موضعٍ أُضْمِرَ فيه هذا المبتدأُ لهذا المعنى أُضْمِرَ فيه هذا الفعلُ.
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40)}.
قوله: {وَأَن لَّيْسَ}: هي المخففةُ أيضًا. ولم يُفْصَلْ هنا بينها وبين الفعلِ لأنه لا يَتَصَرَّفُ. ومحلُّها الجرُّ أو الرفعُ أو النصبُ لعَطْفِها على أَنْ قبلَها، وكذلك محلُّ {وأَنَّ سَعْيَه} و{يُرَى} مبني للمفعول فيجوزُ أَنْ يكونَ من البصرية أي: يُبْصَر، وأن يكونَ من العِلميَّة، فيكونُ الثاني محذوفًا أي: يُرى حاضرًا، والأولُ أوضحُ. وقال مكي: وأجاز الزجَّاج {يَرى} بفتح الياء على إضمارِ الهاءِ أي: سوفَ يَراه، ولم يُجِزْه الكوفيون لأنَّ سَعْيَه يَصير قد عملَ فيه {أنَّ} و{يَرى} وهو جائزٌ عند المبرد وغيرِه؛ لأن دخولَ {أنَّ} على {سَعْيَه} وعملَها يَدُلُّ على أن الهاء المحذوفة مِنْ {يَرَى}، وعلى هذا جَوَّز البصريون: إنَّ زيدًا ضربْتُ بغير هاء.
قلت: وهو خلافٌ ضعيفٌ؛ توهَّموا أن الاسمَ تَوَجَّه عليه عاملان مختلفان في الجنسيةِ، وإنما قلتُ في الجنسية لأنَّ رأيَ بعضِهم أنه يُعْمِلُ فعلَيْن في معمولٍ واحدٍ، ومنه بابُ التنازع في بعض صورِه نحو: قام وقعد زيدٌ، وضربْتُ وأكرمْتُ عَمْرًا، وأن يعملَ عاملٌ واحدٌ في اسمٍ وفي ضميرِه معًا نحو: زيدًا ضربتُه في باب الاشتغال، وهذا توهُّمٌ باطلٌ لأنَّا نقول {سَعْيَه} منصوبٌ ب {أنَّ}، و{يَرى} متسلِّطٌ على ضميره المقدر.
قلت: فظاهرُ هذا أنه لم يُقرأ به، وقد حكى أبو البقاء أنه قرئ به شاذًَّا، ولكنه ضَعَّفه مِنْ جهةٍ أخرى فقال: وقرئ بفتح الياء وهو ضعيفٌ؛ لأنه ليس فيه ضميرٌ يعودُ على اسم {أنَّ} وهو السَّعْي، والضميرُ الذي فيه للهاءِ، فيبقى الاسمُ بغير خبرٍ، وهو كقولك: إنَّ غلامَ زيدٍ قامَ وأنت تعني: قام زيدٌ، فلا خبرَ لغلام. وقد وُجِّه على أن التقديرَ: سوف يَراه فتعودُ الهاءُ على السعي وفيه بُعْدٌ. انتهى.
وليت شعري كيف توهَّم المانعَ المذكورَ، وكيف نَظَّره بما ذكر؟ ثم أيُّ بُعْدٍ في تقدير: سوف يَرى سعي نفسِه؟ وكأنَّه اطلع على مذهبِ الكوفيين في المنعِ إلاَّ أنَّ المُدْرَك غيرُ المُدْرِك.
{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)}.
قوله: {ثُمَّ يُجْزَاهُ}: يجوزُ فيه وجهان، أظهرهما: أنَّ الضميرَ المرفوعَ عائدٌ على الإِنسان، والمنصوبَ عائدٌ على سعيه. والجزاء مصدرٌ مبيِّنٌ للنوع. والثاني: قال الزمخشريُّ: ويجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ للجزاء، ثم فَسَّره بقوله: {الجزاءَ}، أو أبدلَه عنه كقوله: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3].
قال الشيخ: وإذا كان تفسيرًا للضميرِ المنصوبِ في {يُجْزاه} فعلى ماذا ينتصِبُ، وأمَّا إذا كان بدلًا فهو مِنْ بدلِ الظاهرِ من المضمرِ، وهي مسألةُ خلافٍ والصحيحُ المنعُ.
قلت: العجبُ كيف يقول: فعلى ماذا ينتصِبُ؟ وانتصابُه من وجهَيْن، أحدُهما: وهو الظاهرُ البيِّن- أنْ يكونَ عطفَ بيانٍ، وعطفُ البيانِ يَصْدُقُ عليه أنه مُفَسِّرٌ، وهي عبارةٌ سائغةٌ شائعةٌ. والثاني: أَنْ ينتصِبَ بإضمار أَعْني، وهي عبارةٌ سائغةٌ أيضًا يُسَمُّون مثلَ ذلك تفسيرًا.
وقد مَنَعَ أبو البقاء أن ينتصِبَ الجزاء الأَوْفى على المصدرِ، فقال: {الجزاءَ الأوفى} هو مفعولُ {يُجْزاه} وليس بمصدرٍ لأنَّه وَصَفَه بالأَوْفى، وذلك مِنْ صفةِ المَجْزِيِّ به لا من صفةِ الفعلِ.
قلت: وهذا لا يَبْعُدُ عن الغلطِ؛ لأنه يلزَمُ أَنْ يتعدَّى يُجْزى إلى ثلاثةِ مفاعيل. بيانه: أنَّ الأولَ قام مقامَ الفاعلِ، والثاني: الهاءُ التي هي ضميرُ السعي، والثالث: الجزاءَ الأوفى. وأيضًا فكيف يَنْتَظم المعنى؟ وقد يُجاب عنه: بأنه أراد أنه بدلٌ من الهاءِ كما تقدَّم نَقْلُه عن الزمخشريَّ فيَصِحُّ أَنْ يُقال: هو مفعولُ {يُجْزاه}، فلا يتعدَّى لثلاثةٍ حينئذٍ، إلاَّ أنه بعيدٌ مِنْ غَرَضِه، ومثلُ هذا إلغازٌ. وأمَّا قوله: والأوفى ليس من صفات الفعل ممنوعٌ، بل هو من صفاتِه مجازٌ، كما يُوْصف به المجزيُّ به مجازًا، فإن الحقيقةَ في كليهما منتفيةٌ، وإنما المُتَّصِفُ به حقيقةُ المُجازَى.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)}.
قوله: {وَأَنَّ إلى رَبِّكَ}: العامَّةُ على فتح هذه الهمزةِ وما عُطِفَ عليها بمعنى: أن الجميعَ في صُحُفِ موسى وإبراهيم. وقرأ أبو السَّمَّال بالكسرِ في الجميع على الابتداءِ. وقوله: {أَضْحك وأَبْكى} وما بعده: هذا يُسَمِّيه البيانيون الطباقَ والتضادَّ، وهو نوعٌ من البديعِ، وهو أَنْ يُذْكَرَ ضدان أو نَقْيضان أو متنافيان بوجهٍ من الوجوه.
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48)}.
قوله: {أقنى}: قال الزمخشريُّ: أعطى القُنْيَة وهي المالُ الذي تَأَثَّلْتَه وعَزَمْتَ أن لا يَخْرُج مِنْ يَدِك.
قال الجوهري: قَنِيَ الرجلُ يَقْنَى قِنَىً، مثلَ: غنِيَ يَغْنَى غِنَى.
ثم يتعدَّى بتغييرِ الحركة فيقال: قَنَيْتُ مالًا أي: كَسَبْتُه، وهو نظير: شَتِرَتْ عينُه بالكسر وشَتَرَها اللَّهُ بالفتح، فإذا دَخَلَتْ عليه الهمزةُ أو التضعيفُ اكتسب مفعولًا ثانيًا فيقال: أَقْناه الله مالًا، وقَنَّاه إياه أي: أَكْسَبه إياه، قال الشاعر:
كم مِنْ غنيٍّ أصاب الدهرُ ثَرْوَته ** ومِنْ فقيرٍ تَقَنَّى بعد إقْلالِ

أي: تقنَّى مالًا، فحذف الثاني، وحُذِفَ مفعولا أغْنى وأَقْنى؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ هذين الفعلين إليه وحدَه وكذلك في باقيها.
وألفُ {أَقْنى} عن ياءٍ لأنه مِنَ القُنِيْةِ قال:
ألا إنَّ بَعْد العُدْمِ للمَرْءِ قُنِيَةً

وقيل: أقْنى أَرْضَى. قال الراغب: وتحقيقُه: أنه جَعَلَ له قُنْية من الرضا وقَنَيْتُ كذا واقْتَنَيْتُه قال:
........................... ** قَنِيْتُ حَيائي عِفَّةً وتَكَرُّما

{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49)}.
قوله: {رَبُّ الشعرى}: الشِّعْرى في لسان العرب كوكبان يُسَمَّى أحدُهما: الشِّعْرى العَبُور، وهو المرادُ في الآيةِ الكريمةِ فإنَّ خُزاعةَ كانت تَعْبُدها، وسَنَّ عبادتَها أبو كبشةَ رجلٌ مِنْ ساداتِهم، وكانت قريشٌ تقول لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: أبو كبشَة تشبيهًا بذلك الرجل، في أنه أَحْدَثَ دينًا غيرَ دينهم. والشِّعْرى العَبُور تَطْلُعُ بعد الجوزاءِ في شدَّةِ الحرِّ، ويُقال لها: مِرْزَمُ الجَوْزاء ويُسَمَّى كلبَ الجبَّار.
والثاني: الشِّعْرَى الغُمَيْصاء، وهي التي في الذِّراع. وسبب تَسْميتها بذلك ما زَعَمَتْه العربُ: مِنْ أنَّهما كانا أخْتَيْن أو زوجَيْن لسُهَيْل، فانحدر سهيلٌ إلى اليمنِ، فاتَّبَعْته الشِّعْرى العَبُوْر فعبَرَتْ المَجَرَّة فسُمِّيَتِ العَبورَ، وأقامَتِ الغُمَيْصاءُ، وبَكَتْ لفَقْدِه حتى غَمَصَتْ عَيْنُها، ولذلك كانت أَخْفَى من العَبُوْر.
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)}.
قوله: {عَادًا الأولى}: اعلَمْ أنَّ هذه الآيةَ الكريمةَ مِنْ أشكلِ الآياتِ نَقْلًا وتوجيهًا، وقد يَسَّر اللَّهُ تعالى تحريرَ ذلك كلِّه بحولِه وقوتِه فأقول: إنَّ القراء اختلفوا في ذلك على أربعِ رُتَبٍ، إحداها: قرأ ابن كثير وابن عامر والكوفيون {عادًَا الأُولى} بالتنوين مكسورًا وسكونِ اللام وتحقيقِ الهمزةِ بعدها، هذا كلُّه في الوصلِ فإذا وقفوا على {عادًا} وابتدؤوا ب {الأُوْلى} فقياسُهم أَنْ يقولوا {الأولى} بهمزةِ الوصلِ وسكونِ اللامِ وتحقيقِ الهمزة.